إن التركيز على العلم والعمل لا ينتقص من قيمة العبادة الشعائرية، بل يوسع مفهوم العبادة ليشمل كل فعل نافع يقدمه الإنسان لنفسه ولمجتمعه. فإتقان العمل والمساهمة في بناء المجتمع هما عبادتان لا تقلّان أهمية عن الصلاة والصيام. بل إن العلم والعمل قد يتجاوزان في فضلهما العبادات النفلية، لأن نفعهما متعدٍّ، بينما نفع العبادات النفلية قاصر على صاحبها.
إن العلم والعمل هما أساس النهضة والتقدم، وهما السبيل لتحقيق العدل والرخاء في المجتمع. والإسلام، بتشجيعه على اكتساب العلم النافع والعمل الجاد، يعتبر ذلك جزءًا لا يتجزأ من العبادة التي يتقرب بها إلى الله تعالى. إن التوازن بين العلم والعمل والعبادة هو السبيل لتحقيق السعادة في الدارين، وهو الطريق لبناء مجتمع إسلامي قوي ومتماسك.
إن العلم الذي يرفع الجهل، والعمل الذي يعمر الأرض، هما من أعظم صور العبادة، لأنهما يحققان مقاصد الشريعة الإسلامية في إعمار الأرض وإسعاد الإنسان. إن العلم والعمل هما وجهان لعملة واحدة، وهما السبيل لتحقيق التوازن بين الدنيا والآخرة، بين الروح والمادة، بين الفرد والمجتمع.
إنّ الإسلام دينٌ شاملٌ يوازن بين مختلف جوانب الحياة، ويحثّ على التكامل بين الروح والمادة، بين العبادة والعمل، بين العلم والجهد. وفي هذا السياق، يبرز سؤالٌ جوهريٌّ حول المفاضلة بين العبادة بمعناها التقليديّ (الصلوات النوافل، الصيام التطوعي، الذكر) وبين العلم والعمل. هل يُعتبر العلم والعمل جزءًا من العبادة، أم أنهما يمثلان مسارًا موازيًا؟ وهل يمكن أن يكون لهما فضلٌ يفوق العبادة بمعناها الضيّق؟
إنّ النظر في نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة يكشف لنا عن مكانةٍ رفيعةٍ للعلم والعمل، ويؤكد على أهميتهما في بناء المجتمع وتقدّمه. قال تعالى في سورة المجادلة: “يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ”. (المجادلة: 11). هذه الآية الكريمة تُظهر بوضوحٍ أنّ الله تعالى يرفع منزلة أهل العلم، ويجعل لهم درجاتٍ عاليةً في الدنيا والآخرة.
وفي سورة الزمر، قال تعالى: “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ”. (الزمر: 9). هذا الاستفهام الاستنكاريّ يؤكد على الفارق الكبير بين أهل العلم وغيرهم، ويُشير إلى أنّ العلم هو أساس التمييز والفضل.
أما في السنة النبوية، فقد وردت أحاديث كثيرة تُبيّن فضل العلم والعمل. عَنْ أَبي الدَّرْداءِ، قَال: سمِعْتُ رَسُول اللَّهِ ﷺ، يقولُ: منْ سَلَكَ طَريقًا يَبْتَغِي فِيهِ علْمًا سهَّل اللَّه لَه طَريقًا إِلَى الجنةِ، وَإنَّ الملائِكَةَ لَتَضَعُ أجْنِحَتَهَا لِطالب الْعِلْمِ رِضًا بِما يَصْنَعُ، وَإنَّ الْعالِم لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ منْ في السَّمَواتِ ومنْ فِي الأرْضِ حتَّى الحِيتانُ في الماءِ، وفَضْلُ الْعَالِم عَلَى الْعابِدِ كَفَضْلِ الْقَمر عَلى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وإنَّ الْعُلَماءَ وَرَثَةُ الأنْبِياءِ وإنَّ الأنْبِياءَ لَمْ يُورِّثُوا دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا وإنَّما ورَّثُوا الْعِلْمَ، فَمنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحظٍّ وَافِرٍ. رواهُ أَبُو داود والترمذيُّ.
هذا الحديث النبويّ الشريف يُظهر بوضوحٍ فضل العلم وأهله، ويُبيّن أنّ العلم هو ميراث الأنبياء، وأنّ العلماء هم ورثة هذا الميراث.
وفي حديث آخر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليغرسها”. (رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد). هذا الحديث يُشير إلى أهمية العمل والإنتاج حتى في أصعب الظروف، ويُبيّن أنّ العمل هو جزءٌ لا يتجزأ من الدين. معناه التَّشجيع على العمل، وإلا فمعلومٌ عند قيام الساعة ما يتمكَّن أن يُسوي شيئًا، لكن المقصود التشجيع على العمل، وأن الإنسان ينبغي أن يعمل، وفيه حثٌّ على الزراعة والغراس، وأنه ينبغي للمؤمن أن يكون ذا عملٍ، ليس ذا بطالةٍ وكسلٍ كما يفعل بعضُ الناس، لا، ينبغي للمؤمن أن يكون ذا عملٍ، ذا نشاطٍ، ذا همَّةٍ في الزراعة، في غرس الأشجار، في أنواع المكاسب: من نجارة، من حدادة، من غراسة، من كتابة، من غير ذلك، لا يبقى مُعطلًا، بل يعمل.
إنّ العلم والعمل ليسا مجرد وسائلٍ لتحقيق الرفاهية المادية، بل هما أيضًا وسائلٌ لتحقيق العبادة بمعناها الشامل. فالعلم يُعين الإنسان على فهم دين الله، والعمل يُعينه على تطبيق هذا الدين في حياته. فالعالم الذي يُتقن عمله، والطبيب الذي يُعالج المرضى، والمهندس الذي يُشيّد المباني، والمزارع الذي يُنتج الغذاء، كل هؤلاء يُؤدّون عبادةً لله تعالى من خلال عملهم.
إنّ العبادة بمعناها الضيّق (الصلوات النوافل، الصيام التطوعي، الذكر) هي جزءٌ هامٌ من الدين، ولكنها ليست كل الدين. فالإسلام يحثّ على التوازن بين العبادة والعمل، وبين الروح والمادة. فالإنسان المسلم يجب أن يكون عابدًا لله تعالى في كل جوانب حياته، سواء كان يصلي أو يعمل أو يتعلم.
إنّ التركيز على العلم والعمل لا يعني التقليل من شأن العبادة بمعناها الضيّق، بل يعني توسيع مفهوم العبادة ليشمل كل ما يُقدّمه الإنسان من خيرٍ لنفسه وللمجتمع. فالإنسان الذي يُتقن عمله، ويُساهم في بناء مجتمعه، يُؤدّي عبادةً لله تعالى لا تقلّ أهميةً عن الصلوات النوافل والصيام التطوعي.
إنّ العلم والعمل هما أساس النهضة والتقدّم، وهما السبيل لتحقيق العدل والرخاء في المجتمع. فالإسلام يحثّ على اكتساب العلم النافع، والعمل الجاد، والإنتاج المثمر، ويُعتبر ذلك جزءًا من العبادة التي يُتقرّب بها إلى الله تعالى.
يجب أن نؤكد على أنّ العلم والعمل هما جزءٌ لا يتجزأ من الدين الإسلامي، وأنهما يُشكّلان أساسًا هامًا لبناء المجتمع وتقدّمه. فالإنسان المسلم يجب أن يسعى إلى اكتساب العلم النافع، والعمل الجاد، والإنتاج المثمر، وأن يُؤدّي عبادةً لله تعالى في كل جوانب حياته.
إنّ التوازن بين العلم والعمل والعبادة هو السبيل لتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة، وهو الطريق لبناء مجتمعٍ إسلاميٍّ قويٍّ ومتماسك. ومما لا شك فيه أن الجمع بين طلب العلم وأداء النوافل أولى وأفضل، وهذا الإمام الشافعي رحمه الله كان يقسم الليل ثلاثة أثلاث، فثلث يؤلف فيه، وثلث يصلي فيه، وثلث ينام فيه.
احمد صهيب الندوي
مجلة الإمام
نيو دلهي – الهند