العصر الذهبي للمستشفيات الإسلامية: شهادة مريض عن رعاية استثنائية:
شهد العصر الذهبي للإسلام، الممتد من القرن الثامن حتى القرن الثالث عشر، إنجازات حضارية عظمى. ومن أبرز مظاهر التزامه المنقطع النظير برفاهية الإنسان، ما يتجلى في الوصف الدقيق لمرافق مستشفياته، الذي حوّلته رسالةٌ مفعمةٌ بالحياة من مريض إلى والده إلى واقع ملموس.
تُعد هذه الرسالة برهانًا قاطعًا على التطور المذهل الذي اتسمت به المستشفيات ذات التوجه الخيري في تلك الحقبة. فهي لا تكتفي برسم صورة تفصيلية للمرافق الطبية الاستثنائية المتوفرة فحسب، بل تُسلط الضوء أيضًا على البيئة الداعمة التي كانت تُوفَّر للمرضى. فبعيدًا عن مجرد العلاج، تتحدث الرسالة عن الإقامة المريحة، والوجبات المغذية، بل وحتى المساعدة المالية عند الخروج من المستشفى؛ وهو مستوى من الرعاية يؤكد الأهمية القصوى التي أولتها الحضارة الإسلامية لرفاهية الإنسان. حقًا، تقف المستشفيات الخيرية في العصر الإسلامي نموذجًا فريدًا، مقدمةً مثالًا خالدًا لأنظمة الرعاية الصحية الحديثة.
والدى العزيز: إنك تسأل عما إذا كنت تحضر لى نقودا عند زيارتك. والواقع أننى عندما أغادر المستشفى تصرف لى إدارته كسوة جديدة، وتسلمنى خمس قطع نقود ذهبية أنفق منها عقب خروجى من المستشفى مباشرة حتى لا أضطر إلى العمل وأنا فى حاجة إلى الراحة للنقاهة. فأنت يا والدى لست فى حاجة إلى بيع ماشية من مواشيك. والشىء الوحيد الذى أطلبه منك سرعة المبادرة، إذا ما أردت زيارتى حيث أقيم الآن فى قاعة ذوى العاهات إلى جانب حجرة العمليات، والوصول إليها سهل يسير. فعند دخولك من المدخل الرئيسى للمستشفى توجه إلى القاعة الخارجية الواقعة جهة الجنوب، وهى المصحة الشعبية التى نقلت إليها عقب سقوطى. وهناك يكشف على المريض مساعدو الأطباء وبرفقتهم الطلبة. أما المريض الذى لا يحتاح إلى علاج داخلى فى المستشفى فيحصل على كشف بالدواء الذى يحتاج إليه، ويتناوله من صيدلية المستشفى. وبعد الكشف على، كتب اسمي فى سجل المستشفى وعرضت على كبير الأطباء. وقد حملنى ممرض إلى قسم الرجال بعد أن أدخلنى الحمام وألبسنى ملابس نظيفة للمرضى. وعلى يسارك أيضًا تجد المكتبة والقاعة الكبرى للمحاضرات حيث يدرس كبير الأطباء للطلاب. وهذا المكان يقع خلفك. أما الطريق الواقع فى جهة اليسار من فناء المستشفى فيؤدى إلى القسم الآخر لذلك يجب عليك أن تلتزم دائمًا ناحية اليمين ماراً بقسم الأمراض الباطنية وقسم الجراحة. وعندما تسمع موسيقى أو غناء فى قاعة من القاعات، فانظر إلى داخلها إذ قد أكون فى القاعة النهارية للاستجمام والترويح عن النفس حيث نجد كتباً وموسيقي للتسلية.
زارنى صباح اليوم كبير الأطباء ومعه مساعدوه والممرضون، وكشف على طبيب القسم شيئًا لم أفهمه وقد شرح لى بعد ذلك أننى قد أغادر السرير غداً وأترك المستشفى قريبًا. والواقع أننى لا أريد مغادرة المستشفى فكل شىء هنا فى غاية النظافة والجمال. فالأسرة وثيرة وأغطيتها من القماش الدمشقى الأبيض وعليها أخرى هشة ناعمة كالقطيفة. وفى كل غرفة ماء جار وبها مدفأة تستخدم شتاء. أما وجبة الطعام فغالبًا ما تتكون من الطيور أو شواء الضأن لأولئك الذين تحتمل صحتهم مثل هذا.
إن جارى قد تمارض نحو أسبوع طلبًا فى إطالة البقاء بالمستشفى ليتمتع بلحم صدر الفراخ، إلا أن كبير الأطباء قد تبين له وأخرجه من المستشفى البارحة، بعد أن تبين جودة صحته من أنه أكل رغيفًا وفرخة كاملة. إذن احضر يا والدى قبل أن تعد لى آخر دجاجة!
إن هذه الرسالة تصور مستشفى من المستشفيات الكثيرة التى كانت منتشرة فى مختلف أنحاء العالم اللإسلامى قبل ألف عام من الهيمالايا إلى البرنات؛ ففى قرطبة نجد فى منتصف القرن العاشر خمسين مستشفى. أما بغداد وقد فاقت غيرها واشتهرت بمستشفياتها منذ عهد هارون الرشيد. فمواقع المستشفيات قد أحسن اختيارها صحيًا، كما زودت جميع غرفها ومحال الغسل بها بالمياه الجارية المأخوذة من نهر دجلة وكان هذا شينًا بدهيًا. فعندما شرع السلطان عضد الدولة فى بناء مستشفى جديد كلف الطبيب المشهور الرازى اختيار أنسب مكان وأصحه، وأن عضد الدولة استشاره فى الموضع الذى يجب أن يبنى فيه البيمارستان. وأن الرازى أمر بعض غلمانه أن تعلق فى كل ناحية من جوانب بغداد شقة لحم؛ ثم اعتبر التى لم يتغير فيها اللحم بسرعة فأشار بأن يبنى فى تلك الناحية.
ومن أشهر المستشفيات الإسلامية المستشفى الكبير المعروف باسم المنصورى أو دار الشفاء أو بیمارستان قلاوون، ولما تم بناؤه توجه السلطان فى ركب عظيم، ولما بلغ البيمارستان استدعى قدحًا من الشراب فشربه وقال: “قد وقفت هذا على مثلى فمن دونى”. وأوقفه السلطان على الملك والمملوك، والكبير والصغيرء والحر والعبد والذكر والأنثى. وجعل لمن يخرج منه من المرضى عند برئه كسوة، ومن مات جهزه وكفن ودفن. ورتب فيه الحكماء والكحالين والجراحين والمجبرين لمعالحة الرمد والمرضى والمجروحين والمكسورين من الرجال والنساء، ورتب الفراشين والفراشات والقومة لخدمة المرضى وإصلاح أماكنهم وتنظيفها وغسل ثيابهم وخدمتهم فى الحمام، لكل مريض فرش كامل. ولم يحضر السلطان أثابه الله هذا المكان المبارك بعده، بل جعله سبيلا لكل من يصل إليه فى سائر الأوقات من غنى وفقير. ولم يقتصر أيضًا على من يقيم به من المرضى بل رتب لمن يطلب وهو فى منزله ما يحتاج إليه من الأشربة والأغذية والأدوية.
أما مستشفى نورى هذا فقد أسسه الرجل الإنسانى الذى كان يعنى بشئون رعيته ألا وهو السلطان نور الدين زنكى وقد شيده من فدية حصل عليها لإفراجه عن ملك من ملوك الإفرنج كان قد أسره وسجنه.
وكان المرضى يعالجون فيه مجانًا سواء كانوا أغنياء أم فقراء كما كانوا لا يدفعون شيئا نظير إقامتهم فى المستشفى، وكان العلاج مجانًا وعلاوة على ذلك يتناول المرضى الملابس والنقود للإنفاق لمدة شهر بعد ترك المستشفى.
من كتاب: شمس الله تشرق على الغرب – فضل العرب على أوروبا
المؤلفة: د. سيجريد هونكه – الصفحة: 154 – 158
احمد صهيب الندوي
مجلة الإمام
نيو دلهي – الهند
Email: info@al-emam.org
مركز الإمام أبي الحسن على الحسني الندوي للتعليم والتوعية
Al-Emam Al-Nadwi Education & Awakening Center
New Delhi, India